غزة ــ قصة دراماتيكية تلك التي تمكن الطالب حمادة عودة الناعوق (25 عاماً) من خلالها الخروج من قطاع غزة لإكمال دراسته الجامعية في كلية الهندسة بجامعة براغ التقنية في جمهورية التشيك بعد عودته لقطاع غزة لرؤية أهله وأصدقائه في شهر آب 2007، حيث لم يتمكن من اللحاق ببداية العام الدراسي في التشيك بسبب الظروف التي يمر بها القطاع بعد فرض الحصار الإسرائيلي المشدد.
لم يكن يعلم الناعوق الذي لم يأتِ إلى القطاع منذ أكثر من 3 سنوات بالمعاناة التي تنظره والتي بدأت بعد وصوله إلى مطار العريش حيث احتجز مع آلآف العالقين هناك طيلة 35 يوما قضاها قبل الدخول إلى القطاع.
وبعد دخوله إلى القطاع ورؤيته للأهل والأصدقاء كان من المفترض أن يعود لإكمال دراسته في التشيك مع بداية شهر تشرين الأول، ولم يحالفه الحظ في العودة لمقاعد الدراسة في الوقت المحدد، ففي الوقت الذي ورد اسمه في أحد كشوف هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية التي كانت تصدرها بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، وتشمل أسماء الطلبة والمرضى وأصحاب الإقامات للسفر عن طريق معبر "العوجا"، أعلنت إسرائيل أن قطاع غزة "كياناً معادياً"، وفرضت إغلاقاً خانقاً ضده، وكغيره من الطلبة سلم الناعوق أمره لله وبقي في غزة انتظارا للفرج دون طائل.
محاولة للخروج
من القطاع
وفي أواخر كانون الثاني العام 2008، فجر مسلحون فلسطينيون جزءاً من الجدار الفاصل على الحدود المصرية الفلسطينية فتدفق آلاف الفلسطينيين إلى المدن المصرية للتزود بالمواد التموينية، فاستغل الناعوق الفرصة وتوجه لمدينة العريش، ومكث هناك أكثر من 15 يوماً في انتظار أن تسمح له السلطات المصرية بالسفر، ولكن الحظ السيئ كان حليفه في هذه الرحلة حيث انتهت صلاحية تأشيرة سفره إلى التشيك قبل يوم واحد من سماح السلطات المصرية للعالقين بالسفر، فطلب منه المصريون العودة ولكنه حاول إقناعهم بأنه طالب جامعي في التشيك عن طريق إظهار أوراق منها ورقة من السفارة الفلسطينية في التشيك تثبت انه طالب هناك، وأخرى من السفارة التشيكية في تل أبيب تثبت هي الأخرى أنه طالب في التشيك، وكذلك ورقة من الجامعة وغيرها من الأوراق الثبوتية، ولكن دون جدوى، لان المصريين لم يعيروا أياً من هذه الأوراق اهتمامهم، ورفضوا حتى الاطلاع عليها.
وعن ذلك يقول الناعوق "لو أنهم ـ أي المصريين ـ سمحوا لي بالخروج قبل انتهاء صلاحية تأشيرة دخولي إلى التشيك لما حصل ما حصل ولكنهم جعلونا ننتظر أكثر من 15 يوما، كان كل يوم منها يمر يتضاعف معه أملي في السفر".
عاد الناعوق مرة أخرى إلى غزة وهو لا يحمل في جعبته إلا الإحباط وفقدان الأمل في السفر نهائيا، فتأشيرة دخوله إلى التشيك انتهت صلاحيتها، ومن الصعب استخراج واحدة جديدة، كما أن المعبر مغلق وما حدث من تفجير للحدود ربما لن يحدث مرة أخرى بعد اتخاذ السلطات المصرية إجراءات صارمة لمنع تدفق الفلسطينيين إلى المدن المصرية، إذ كان يأمل الناعوق أن يلحق بما تبقى من الفصل الدراسي في جامعته عله يستطيع تعويض ما فاته في هذا الفصل.
الاستسلام للقدر
منذ ذلك الحين استسلم الناعوق لقدره بأنه باق في غزة، ودب الحزن في أوصاله لأنه قطع شوطا كبيرا في دراسته الجامعية خارج الوطن ولم يبق إلا القليل، كل ما كان يفعله الناعوق هو البقاء في البيت ومتابعة الأخبار ومن فترة لأخرى، وكذلك كان يتلقى اتصالات من أصدقائه في التشيك للاطمئنان على أحواله، من ضمن هؤلاء الأصدقاء شاب فلسطيني زميل له في الدراسة اقترح عليه أن ينشر قصته في وسائل الإعلام التشيكية عن طريق صحافي تشيكي وهو صديق شخصي لزميل الناعوق .
رئيس الوزراء
التشيكي يتدخل
وبالفعل نشرت صحيفة "ملادا فرونتا دنيس" وهي أكثر الصحف التشيكية انتشاراً تقريراً عن حالة الناعوق في صفحتها الأولى من قسم أخبار العالم، وبعد نشر هذا التقرير وبتاريخ 11/3/ 2008 كان رئيس الوزراء التشيكي ميريك توبولانيك في زيارة لإسرائيل التقى خلالها نظيره الإسرائيلي أيهود أولمرت، وأثار معه قضية الناعوق طالباً منه السماح بخروجه من غزة ونقله بطائرة رئيس الوزراء التشيكي إلى التشيك، فما كان من أولمرت إلا أن يرد بالرفض معللاً ذلك بأن هذا الموضوع يخص الجيش الإسرائيلي ولا علاقة للحكومة به.
فأثناء وجوده في غزة تلقى الناعوق اتصالاً هاتفياً من السفير التشيكي في تل أبيب، وفي هذا الاتصال وعد السفير حمادة باستخراج تأشيرة سفر جديدة له ليخرج عن طريق معبر "إيرز" إلى مطار بن غوريون ومنه إلى براغ، وبعدها بفترة وجيزة أبلغ السفير التشيكي الناعوق بأنه تمكن من استخراج تأشيرة خروج له ولكنه أبلغه أيضا برفض الإسرائيليين السماح له السفر عن طريق مطار بن غوريون.
وزيرة الدفاع التشيكية تتدخل أيضاً!
بعد ذلك بفترة وجيزة زارت وزيرة الدفاع التشيكية إسرائيل والتقت نظيرها الإسرائيلي أيهود باراك وجددت الطلب بالسماح بخروج الناعوق من قطاع غزة قائلة لباراك "إن إسرائيل تقول عن نفسها أنها دولة ديمقراطية فلماذا لا تسمحون للناعوق بالخروج من غزة؟ فوافق باراك ووقع تصريح الخروج بنفسه.
الحظ يبتسم للناعوق
على ما يبدو أن الحظ عاد يبتسم لحمادة من جديد لأنه لم يمر أيام قليلة حتى تلقى الناعوق اتصالا هاتفياً ابلغ من خلاله أنهم سمحوا له بالمرور من "الأراضي الإسرائيلية" ومنها إلى الأردن ثم إلى التشيك، وفي هذه الحالة كان على الناعوق أن يحصل على تصريح "عدم ممانعة" من السلطات الأردنية للدخول إلى الأردن، الأمر الذي أبلغه للسفير التشيكي فوعده أيضا بالحصول عليها.
على الرغم من أن السفير التشيكي كان يقضى إجازة نهاية الأسبوع إلا انه لم يتخاذل، فقام بالاتصال بالسفارة الأردنية في تل أبيب وناقش مع السفير الأردني حالة الناعوق فحصل منه على تصريح "عدم ممانعة" وأبلغ الناعوق هاتفيا بذلك، وبقي على الناعوق أن يعرف موعد توجهه إلى معبر "إيرز" للسفر، ولم ينتظر طويلا حيث هاتفه ضابط في الجيش الإسرائيلي طالبا منه التوجه في يوم الاثنين بتاريخ 7/4/ 2008 الساعة الثامنة إلى معبر "إيرز" للسفر.
حراك دبلوماسي
على أعلى المستويات
توجه الناعوق في التاريخ والوقت المحددين إلى المعبر.. ولم يكن يعلم بكل ما دار سابقا من حراك دبلوماسي على أعلى المستويات من أجل نقله إلى التشيك لإكمال دراسته إلا بعد وصوله لمعبر "إيرز" والتقائه بنائب السفير التشيكي الذي كان في انتظار وصوله ليتوجه به إلى إسرائيل ومنها إلى الحدود الأردنية ولكن الجيش الاسرائيلي هناك طلب من حمادة التوجه إلى حيث الفلسطينيين على الجسر، إلا أن نائب السفير قام بعمل اتصال وانتظر قليلا حتى وصل مندوب من وزارة الدفاع الإسرائيلية وطلب من نائب السفير أن يلحق به مصطحبا معه الناعوق حتى وصلوا إلى حيث لا يسمح لنائب السفير بدخول المكان، وكان عليه العودة إلى مقر السفارة في تل أبيب. وقبل عودته، قال للناعوق انه من الممكن أن يرسل مندوبا من السفارة التشيكية في عمان لينتظره بعد دخول الناعوق الاراضي الأردنية، إلا أن الناعوق شكره على المجهود الكبير الذي قامت به جمهورية التشيك حتى تمكن من الوصول إلى ذلك المكان.
واصل الناعوق إكمال إجراءات السفر على الحدود الأردنية بمساعدة مندوب وزارة الدفاع، حتى دخل الاراضي الأردنية، ومن ثم توجه إلى العاصمة عمان حيث مكث هناك يوماً حتى توجه إلى مطار الملكة علياء للسفر إلى جمهورية التشيك.
صحافيون في مطار براغ يستقبلون الناعوق
ويقول الناعوق وصلت إلى مطار براغ عند الساعة الواحدة ظهرا لأجد عشرات الصحافيين بانتظاري في ردهة الاستقبال في المطار ولكل منهم سؤال عن حقيقة الوضع في غزة وكيفية خروجه من القطاع.....
بعد وصوله إلى جمهورية التشيك توجه الناعوق بطلب مقابلة رئيس الوزراء التشيكي ليشكره على ما قام به من مجهود ومساعدته في العودة.. بعد فترة لا تزيد على يوم من تقدمه بالطلب وجد الناعوق ردا سريعا مرّحبا به.. تم تحديد ميعاد اللقاء في 12/5/2008 اي يوم الاثنين....
حمادة الطالب الفلسطيني الذي كاد يفقد مستقبله لولا قدر الله، وصل الآن إلى جمهورية التشيك وانتظم في مقاعد الدراسة من جديد... يتذكر رحلته إلى غزة. ويقول "بعد وصولي إلى التشيك وجدت أن معظم التشيكيين يعلمون بقصتي أولا لأن الإعلام هناك اخذ دوره الكبير في نشرها، وثانيا لأنهم هنا "اي في التشيك" اعتبروني حالة إنسانية.
لا تزال في غزة ..
حالات أقسى
"بلحظة شرود وتوهان بين الموت والضياع الذي تعيشه غزة الحزينة المحاصرة، قررت المغادرة من مأساة مرسومة تصرخ بنا أين فلسطين منكم؟ بدأت أنبش وأبحث عن شيء أكتبه لهم خلال رحلتي إلى غزة ليتذكر العالم أن هناك بلدا محتلا، وشعبا يُقتل ويذبح، وخيرات تنهب، وحكايات تدمي القلب تتناقلها طيور غزة المهاجرة التي لم يعد لها مكان في السماء، وبلابل لم تعد تغرد حباً وعشقاً للنخيل، وأرامل يحملن آهاتهن باحثات عن أمل وسط حطام الموت العاصف من كل صوب وحدب، عن ماذا أكتب وسط هذا الزحام من الجراح والألم ؟! يقول الناعوق.
ويختتم: هم اعتبروني حاله إنسانية لأنهم لم يشاهدوا الحالات الإنسانية الحقيقية في قطاع غزة.. لم يشاهدوا الأطفال الموتى وهم ينتظرون فتح المعابر لوصول الدواء لهم.. لم يشاهدوا الجرحى يفقدون أعمارهم وهم ينتظرون رحمة الله .. فهم لا يعرفون شيئا عن حالاتك الإنسانية الكثر يا غزة.