الشيخ أحمد ياسين .. من الجورة إلى القمة
بقلم / د. صلاح البردويل
عضو المكتب السياسي لحزب الخلاص الوطني الإسلامي
هنا على تراب هذه الأرض الطاهرة المقدّسة فلسطين .. هنا كان الأنبياء .. و هنا أيضاً كان القتلة المجرمون !! هنا ثمّة من نفخ في الطين فخلق منه طيوراً و عصافير تحلّق في سماء الحرية .. و هنا ثمّة من ذبح الحمام ، و شرّد العصافير و ملأ السماء طائرات مجرمةً و بوماً !! هنا كانت صرخة الميلاد .. و هنا كانت مريم .. و هنا طورد السلام في أرض السلام!! و هنا و في مغارة الاحتلال كان ميلاد الشيخ أحمد ياسين .
للزمان معناه و للمكان !!
ليس بعيداً عن مدينة عسقلان التاريخية العريقة تنام قرية الجورة .. جميلة كجمال الطيور التي نفخ عيسى فيها فكانت طيراً بإذن الله ، حالمة تزهو بصفاء جوّها و دفء شمسها ، و رقّة بحرها ، و جمال عناقيد كروم العنب فيها ، نقيةٌ كنقاء رمالها الصفراء على شاطئها ، زكية كرائحة الزنابق البيضاء التي تنتشر بعفوية على تلالها الصغيرة التي تداعب موج البحر ، حيّة تقوم من موتها كلما انبثقت شقائق النعمان في ظلال بياراتها .. هنا في الجورة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها بضعة كيلو مترات مربعة و لم يتجاوز عدد سكانها آنذاك ألف نسمة و بين جدران الطين التي بناها والده إسماعيل بيديه وُلِد أحمد ياسين في عائلة اشتهر رجالها بمهنة البناء .. كانوا يجبلون طين بلادهم بقشّها و مائها و عرقهم ليبنوا تلك البيوت الطينية البسيطة لأهلها البسطاء الكرماء الذين لا تفارق الابتسامة عيونهم ، و لا تفارق الطلاقة وجوههم و لا تفارق الكلمات الرقيقة ألسنتهم ، لا يعرفون الحقد ، و لا يحبون الظلم ، و لا يعتدون على أحدٍ أبداً ، تعلّموا الصبر و الكرم من البحر الذي عايشوه أيضاً و غازلوه ، و طرحوا شباكهم في عمقه ، فلم يعودوا خائبين ، أطعموا أطفالهم ، و غسلوا أجسادهم ، و استمتعوا بكرمه و جماله ، و عادوا في آخر النهار راضين يغنّون رائع الأغاني و الأهازيج .
و للزمان أيضاً دلالاته و معناه ، فقد كانت صرخة الولادة عام 1936 ، يوم ولادة الثورة الكبرى على أرض فلسطين ، و كأنما انضمت صرخة الوليد أحمد ياسين على غير موعدٍ إلى صرخات آلاف الحناجر الفلسطينية الرافضة للذل و القهر و الاستيطان و الاحتلال .
ضاقت الأحوال و طغى الفقر و عضّت أمّه الصابرة "سعدة" على خوفها و حزنها ، و استعاضت عن ذلك بفرحتها لمولد هذا الطفل الهادئ البرئ الرقيق ، و كان هاتفٌ زارها في منامها و ألحّ عليها أن تسمّيه أحمد ، فلم تتردّد في ذلك رغم معارضة العائلة التي كثر اسم أحمد في أولادها ، و لكي يميّزوه أسموه "أحمد سعدة" ، و كان الأطفال يخجلون آنذالك من أن يُدعو لأمهاتهم ، و لكن ما العيب و ذلك نبيّ الله عيسى ابن مريم ، و ما العجب و نحن نعلم أنّنا نُنادى يوم القيامة بأسماء أمهاتنا ؟!!
كان والده إسماعيل الذي أثقله همّ الأولاد و الفقر قد بدأ يذوي ، فلم تمضِ سوى سنواتٍ ثلاث على مولد الطفل أحمد حتى رحل والده و تركه ثالثاً في أخوته الذكور الثلاثة و كان بعده طفل صغير آخر و له من الأخوات اثنتان .
في أحضان أمّه ، و في ظلّ الفقر و الحرمان و الصبر ينبت الطفل أحمد و يبلغ السادسة . و في رفقة أقرانه يحمل مخلاته و يلتحق بمدرسة القرية الصغيرة يتعلّم اللغة و الحساب و الشعر و الأخلاق ، و يبرز بين أقرانه سنة بعد سنة ، و يكبر أحمد ياسين ما بين أمّه و إخوته ، و مدرسته و أصحابه و ما بين الفراشات و العصافير التي كان يطاردها في ربيع قريته ، و خلف طيور السمّان المهاجرة من مكانٍ بعيد إلى أرض الرسالات أرض فلسطين .
لم تكتمل فرحته بنجاحه و نبوغه في أحضان مدرسته بل لم يكتمل اشتداد عوده المنزرع في تراب أرضه و وطنه ...
بينما كان الخريف يظلّل بغيومه أشجار الزيتون المثقلة بزيتونها ، و بينما كانت طيور النورس تحطّ على شواطئ القرية الآمنة كانت طائرات الصهاينة تلقي بحممها على الآمنين ، عائلات بأكملها تدفن تحت تراب بيوتها .. و عائلات لا يبقى منها سوى طفلٌ صغير ، و أشجار تحترق ، و طيور تفزع ، و فراشات تموت . لقد سقطت عن هيئة الأمم و عن قوات الانتداب ورقة التوت .
في صباح الرابع من تشرين الثاني كان حوالي ألفٌ و سبعمائة من رجال الجورة و نسائها و أطفالها يهاجرون هاربين بأرواحهم من سورة حقد و حمم الطائرات التي لم ترحم طفلاً و لا امرأة و لا شيخاً . المراكب الصغيرة امتلأت ببعض العائلات ، و الجِمال ناءت بأحمالها ، و أطفال يهرعون مشياً على الأقدام .
تركوا البيوت و الأموال و البيارات و بئر الماء و المدرسة و الجامع و الدكاكين و رحلوا كلّهم إلى غزة فيما عدا من أصرّوا هناك على البقاء بين الأنقاض نائمين إلى الأبد ..
ها هي غزة هاشم تفتح ذراعيها للمذبوحين في كرامتهم ، و المطرودين عنوة من ديارهم ، و المسروقين على أعين الأمم المتحضرة في وضح النهار . و من حارةٍ إلى حارة ، و من محلّة إلى محلّة ينتقل أحمد ياسين مثل كلّ الذين أصبح اسمهم من اليوم لاجئين حتى شاء الله أنْ تحطّ بهم الرحال على شاطئ بحر غزة ، و في مخيّم الشاطئ الذي لا يبتعد عن الجورة أكثر من عشرين كيلومتراً .
من هناك كان الطفل أحمد ينظر إلى بلدته التي كان يرى السفن متّجهة إلى بحرها الذي أصبح يسمّى بحر "أشكلون" بعدما حرّف المغتصب اسمه ليطمس هويته ..
كان البحر يشدّه اليه ، ربّما لما يمثّله في قلبه من ذكريات الوطن الصغير ، أو ربّما ليكمل اللعب الطفولي الذي لم يكتمل هناك ، و ربما ليشتدّ عوده فيقوى على العودة إلى هناك .
و لكن ماذا يفيد البكاء على الأطلال من بعيد ؟ و هل يُغني البكاء عن العمل ؟ وهل يطعم من جوع ؟
ترك أحمد ياسين المدرسة ليلتحق بأحد مطاعم الفول البسيطة على ميناء غزة لعلّه بذلك يعين عائلته الفقيرة حتى كان العام 1952 ، الذي وضع حدّاً لهذا السعي و الكدح .
فبينما كان الشاب أحمد ياسين ابن الستة عشر ربيعاً يصارع رفيقه و حبيبه عبد الله صيام على شاطئ البحر سقط على رأسه ليلتوي عنقه ، و يصاب بكسور تُحيله إلى جثّة هامدة مشلولة شللاً شبه كاملٍ إلاّ من حركة الرأس و الإرادة ، و من حيوية القلب و الابتسامة . و بعض الحركات الصعبة للأطراف . و يأبى عليه كرم نفسه و إخلاصه لصديقه عبدالله أن يبلغ أهله بالسبب ، و ظلّ يحمِل سرّه في صدره إلى عام 1989م ، خوفاً من أنْ يحدث مشكلة بين عائلته و عائلة حبيبه الذي كان قد استشهد عام 1982م في لبنان بعدما لمع اسمه في ميدان الشرف و الدفاع عن الكرامة هناك في "خلدة" بالجنوب اللبناني .. و من منّا لم يعرف العقيد الشهيد عبدالله صيام ؟
لم تمنعه الإصابة و لم يُعقْه الشلل عن إكمال المسيرة ، فأكمل تعليمه حتى أنهى الثانوية العامة بتفوّقٍ كبير عام 1958م ..
كان إحساسه بحال أهله و فقرهم يمنعه من مواصلة تعليمه الجامعي ، لما يمثّله ذلك عليهم من عبءٍ لا يطيقونه ، فقرّر البحث عن وظيفة ، و بالفعل تقدّم إلى وظيفة مدرّس ، و رغم نبوغه في المقابلة ، فقد كاد يفقد هذه الوظيفة بسبب مظهره المشلول ، لولا أنْ قيّض الله له الحاكم المصري آنذاك الذي تعاطف معه بعدما عرف من نبوغه ، فأصبح أحمد ياسين الأستاذ أحمد ياسين .
لقد أراد بحقٍّ أن يكون أستاذاً للجيل ، فكان له ما أراد ، لقد تحدّى العجز الجسدي ، و أطلق للروح عنانها و شارك في قضايا مجتمعه و قومه مشاركةً منقطعة النظير .
ها هو يثور غضباً لإخوانه في مصر و في غزة عندما داهمها العدوان الثلاثي الظالم ، فوقف الأستاذ خطيباً مفوّهاً يرفض الذلّ و يقاوم الغدر و يرفض التوطين ، و يؤمِن بحقّ اللاجئين في الحياة الكريمة و في العودة الكريمة الآمنة إلى ديارهم و بيوتهم التي شُرّدوا منها ، رافضاً أيّ بديلٍ عن ذلك ، و رافضاً ما يسمّى بالإشراف الدولي على غزة مطالباً بضرورة عودة الإدارة المصرية إلى غزة شعوراً منه بما لهذا الشعب العربيّ الشقيق من مكانةٍ في نفوس أبناء غزة و فلسطين .
لم يستَكِنْ الأستاذ أحمد ياسين ، بل دفعه حبّ الوطن و الدين و حبّ القيم الإنسانية إلى المزيد من العطاء ليصبح خطيباً بارزاً في غزة ، يحمِل في صدره مبادئ الإمام حسن البنا ، و يؤسّس لحركة "الإخوان المسلمون" في قطاع غزة ، و يطوف مساجد القطاع مسجداً مسجداً من المسجد الأبيض بمخيّم الشاطئ إلى العباس إلى العمريّ إلى غيرها من هذه المساجد التي اكتظت بالشباب العائدين إلى دينهم الذين ارتادوا هذه المساجد ليستمعوا إلى دروسه في الدين و في الوطنية حتى نودِيَ من ذلك الوقت بالشيخ أحمد ياسين .
لفت هذا النشاط أنظار المخابرات المصرية التي كانت تتربّص بحركة "الإخوان المسلمون" الدوائر ، فأعماها ذلك عن الحالة الإنسانية للشيخ و لم تمنعها إعاقته من اقتياده في بهيم ليلٍ إلى زنازين السجون الانفرادية في مصر ، ليظلّ تحت طائلة التحقيق و التعذيب الجسديّ و النفسي شهراً كاملاً حتى يكتشف هؤلاء أنّه برئ ليعود إلى غزة عام 1965 .
عاد ليقول : "لقد عمّقت زنازين مصر في نفسي كراهية الظلم ، و أكّدت لي أنّ شرعية أيّ سلطةٍ تقوم على العدل و إيمانها بحقّ الإنسان في الحياة بحرية" .
و ما هي إلاّ شهور تتدحرج خلف شهور حتى كانت النكبة الثانية ، كارثة العدوان الصهيونيّ على ما تبقّى من أرض فلسطين و أراضٍ من مصر و سوريا .
لم تفتّ النكسة في عضد الشيخ الذي كره الظلم و كره الصمت على الذلّ ، فتحرّك بما تبقّى من أعضاء جسده المشلول يقاوم الاحتلال على كلّ المنابر و في كلّ الساحات يبني جيلاً من شبان الإخوان في كلّ أرجاء قطاع غزة ، و لم يُعِقْ من حركته و متابعة عمله ملاحقة مخابرات الاحتلال له .
ظلّ الشيخ أحمد ياسين كذلك حتى كان العام 1977 حيث بدأ خطواتٍ عمليّة لترسيخ العمل المنظّم المتفاعل مع الجماهير قولاً و فعلاً ، فكان إنشاؤه للمجمّع الإسلامي بغزة فاتحة عهدٍ جديد في مجال التخفيف من الأوضاع المأساوية لأبناء الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ، و قاعدة لنشر الفكر و الثقافة و القيم الأخلاقية بين شباب القطاع ، و ليصبح المجمّع الإسلامي نموذجاً حضارياً إسلامياً في كلّ أرض فلسطين .
لقد شكّل المجمّع الإسلامي النواة الأصيلة لحركة الإخوان المسلمين في قطاع غزة ، بل و في فلسطين كلّها ، و كانت منه انطلاقة العمل السياسيّ و المقاوم للاحتلال .
مع بداية الثمانينات بدأ الشيخ أحمد ياسين بتشكيل جهازٍ عسكريّ ، و ذلك بمعاونة مجموعة من كوادر حركة الإخوان أمثال الدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة و ذلك رغبة منهم في مقاومة الاحتلال و الدفاع عن أبناء شعبهم ، و لكن هذه المحاولة سرعان ما تكشّفت ، و يعتقل الشيخ و تُوَجّه له تهمة تشكيل جهازٍ عسكريّ و حيازة أسلحة ، و يصدر الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاماً ، لكنهم يطلقون سراحه عام 1985م في إطار عمليةٍ لتبادل الأسرى بين سلطات الاحتلال الصهيونيّ و الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة" بزعامة أحمد جبريل .
ثم اندلعت الانتفاضة .. في بدايات شهر ديسمبر من عام 1987م على إثر عمليّة قتلٍ عمد قامت بها إحدى الشاحنات الصهيونيّة لمجموعة من العمّال الفلسطينيين الآمنين .. وقع الخبر كالصاعقة في نفوس أبناء الشعب المقهورين فتحرّكت المساجد و المدارس و الحواري و البيوت كلّها تعلن الغضب و ترفض الذلّ و الجريمة .
و من اللحظات الأولى يدرك الشيخ أحمد ياسين أنّ الصمت جريمة ، و أنّ ترك الجماهير تتحرّك بلا انتظام جريمة أكبر ، و هنا قرّر مع مجموعةٍ من إخوانه تشكيل حركة المقاومة الإسلامية حماس يداً ضاربة لحركة الإخوان بغيةً منها في خوض ثورة التحرير الشعبية العارمة .
و كان البيان الأول لحركة حماس في 14/12/1987م يحرّض الجماهير على رفض الذلّ و مقاومة الاحتلال و كان لهذا البيان و ما تلاه صدى كبير في الشارع الفلسطيني و اتسعت دائرة حماس ، و تضاعف أنصارها و أعضاؤها و لم تلبث طويلاً حتى أقدمت على عملية نوعية حيث قامت باختطاف جنديين صهيونيين عام 1989 ، لمبادلتهما بأسرى فلسطينيين يعانون العذاب داخل سجون العدو الصهيونيّ .
و مرة أخرى يجد الشيخ المقعد على عربته نفسه خلف قضبان سجون الاحتلال التي اعتقلته في 18/5/1989م مع المئات من أبناء حماس و قادتها .
و مرّة أخرى تصدر المحاكم الصهيونية عليه حكماً بالسجن مدى الحياة إضافة إلى خمسة عشر عاماً أخرى .
و عبثاً حاولت مجموعات حماس العسكرية في بداية التسعينات استبداله بجثّة جنديّ صهيونيّ اختطفوه في إحدى عملياتهم . و قد كان ردّ الشيخ أحمد ياسين الرافض لذلك حاسماً حينما رفض استبداله بجثة .
ثم كانت ساعة الفرج الكبرى و المفاجئة فجر الأربعاء الأول من تشرين الأول عام 1997 حيث أفرجت قوات الاحتلال عن الشيخ بموجب اتفاقٍ بين الحكومة الأردنية و الحكومة الصهيونيّة يتمّ بمقتضاه الإفراج عن عميلين للموساد الصهيونيّ كانا قد فشلا في محاولتهما اغتيال زعيم المكتب السياسي لحركة حماس في الأردن الأستاذ خالد مشعل ..
يا لها من لحظاتٍ رهيبة حينما حطّت الطائرة العسكرية الأردنية على أرض غزة تحمِل على متنها الشيخ أحمد ياسين الذي أفرج عنه إلى الأردن لينقل من هناك إلى فلسطين .
مئات الآلاف من أبناء الشعب ينتظرون في الطرقات و ملايين العيون في شرق الأرض و غربها تراقب الحدث الجليل ، و ما أن يطلّ الكرسيّ المتحرّك من باب الطائرة حتى يغرق الشيخ القعيد بين أيدي الجموع المهلّلة المكبّرة التي تزفّه إلى ملعب اليرموك ليشاهده الجميع كالقمر الذي أطلّ بعد طول ظلام .
كانت كلماته الخافتة البسيطة أقوى وقعاً من كلّ الكلام ، حيّى شعبه بكلّ أطيافه ، و دعا إلى وحدة الصف و الكلمة ، و أكّد على ضرورة هزيمة الظلم و الاحتلال . هو هو لم يتغيّر ، لم تتغير إرادته و عزيمته و عطاؤه .
عضّ على ألم ظلم السلطة ، و التقى الرئيس عرفات و طمأنه على أنّه و حركته لا تنافس السلطة كرسيها و طالبه بأنْ يحافظ على أبناء شعبه و أبناء حماس و ظلّ متواصلاً ، فأكبره الجميع ، و أكبرته الأنظمة و الشعوب العربية و الإسلامية على السواء .
لقد كانت جولته بعد الإفراج عنه في العديد من الدول العربية و الإسلامية أكبر دليلٍ على هذا الإكبار ، حيث استُقبِل هناك استقبال الأبطال و العلماء الأجلاء ، على المستوى الرسمي و الشعبيّ ، في السعودية و إيران و سوريا و الإمارات و غيرها .
و قبل أن يرتاح لهذا الشيخ القعيد جنبٌ راح يعيد بناء حركة حماس ، و لملمة جراحها من جديد ، و يعمل حثيثاً على رأب الصدع بينها و بين إخوانها الذين انساقوا وراء ظلمها ، و قد تحمّل الشيخ في سبيل ذلك الكثير ، فقد شهدت علاقة السلطة به و تجاوبها معه مداً و جزراً ، حتى وصلت الأمور في بعض الأحيان إلى فرض الإقامة الجبرية عليه و قطع الاتصالات عنه .
و لأنه يحمِل في صدره رسالة إنسانية عميقة فقد كان يعلم جيداً أنّ الظلم لا يدوم ، و أنّ الصبر مفتاح الفرج ..
و كان الفرج حينما اندلعت انتفاضة الأقصى لترفع الغشاوة عن عيون الذين راهنوا على اتفاقية أوسلو الظالمة ، و التي رفضها الشيخ و حركته بقوّةٍ لأنّها لا تحقّق الحرية و لا الأمن و لا الكرامة للشعب الفلسطيني .
اندلعت انتفاضة الأقصى يوم 28/سبتمبر/ عام 2000م على إثر تدنيس شارون لحرمة المسجد الأقصى المبارك و إهانته لمشاعر ملايين المسلمين ، و قاد الشيخ أحمد ياسين مجدّداً الانتفاضة ، و كان صمّام الأمان لأجنحتها ، فوحّد المقاومة و جعلها خياراً بديلاً عن خيار المفاوضات العقيمة و تبديد الوقت .
لقد عانى الشعب الفلسطيني أقسى ألوان العقوبات الجماعيّة على يد القوة العسكرية الصهيونيّة الغاشمة التي قتلت الآلاف من الأطفال و الشيوخ و النساء و دمّرت آلاف البيوت ، و اقتلعت مئات الآلاف من أشجار الزيتون و استهدفت كلّ من يقول للعدو لا . و قد اغتيل الكثير من قادة حماس في هذه المرحلة و على رأسهم جمال منصور و جمال سليم و إسماعيل أبو شنب و صلاح شحادة و إبراهيم المقادمة و غيرهم عشرات . و نجا من المحاولة عددٌ من القادة أمثال الزهّار و الرنتيسي و إسماعيل هنية و شيخ الانتفاضة نفسه أحمد ياسين الذي ألقت عليه طائراتF16 أطنان القنابل يوم 6/9/2003م فأحالت البيت الذي كان فيه إلى رمادٍ بينما نجا هو و مرافقه إسماعيل هنية بقدر الله .
ثمانية و ستون عاماً .. ثم كانت النهاية .. خاتمة رحلة طويلة من القهر و الفقر و الحرمان .. خاتمة رحلةٍ من الظلم و العنصرية و التجاهل العالميّ .. قضاها الشيخ أحمد ياسين صابراً على كرسيه المتحرّك بإرادته الجبّارة التي قهرت العجز و تسامت على القهر و تقدّمت صفوف المظلومين لصناعة الحياة .
للزمان معناه و للمكان .. للأرض دلالاتها و للسماء .. لحظة الميلاد الجديد .. فجر يومٍ جديد .. شقشقة العصافير التي بدأت تخرج من عقالها تملأ محيط المسجد تسبيحاً و ترجيعاً .. فضاء يزحف من شرق الأرض إلى مغربها يبشّر بطلوع صبحٍ جديد .. سكينة و وقار .. شيخ على مقعده المتحرّك يعود إلى بيته آمناً في سربه من الأنصار و المحبّين و الفقراء .. بعدما أدّى صلاة الفجر و ذكر الله و دعاه أنْ يرفع الظلم و القهر عن أمّته و شعبه و عن الإنسانية جمعاء .
ما تزال عيون الشيخ شاخصة في السماء تناجي ربّ السماء .. ثمّة غربان تحوم في السماء .. إنها طائرات الأباتشي أمريكيّة الصنع .. تقترب الطائرات ..